حين تتكلم القطع المنهوبة.. متحف بريطاني يطلق حواراً حول العدالة الثقافية

حين تتكلم القطع المنهوبة.. متحف بريطاني يطلق حواراً حول العدالة الثقافية
متحف مانشستر في بريطانيا

في خطوة تحمل أبعاداً ثقافية وأخلاقية عميقة، افتتح متحف مانشستر في شمال غرب إنجلترا، الجمعة، معرضاً جديداً يضم آلاف القطع الأثرية الإفريقية التي ظلت عقوداً حبيسة المخازن دون رواية واضحة أو سياق تاريخي مكتمل.

ويسعى المعرض الذي يأتي في وقت تتصاعد فيه المطالب العالمية بإعادة الآثار المنهوبة، إلى إعادة طرح أسئلة شائكة حول إرث الاستعمار البريطاني، وحق المجتمعات الأصلية في استعادة تراثها الثقافي.

ويحتفظ متحف مانشستر في بريطانيا بأكثر من 40000 قطعة أثرية إفريقية، جرى جمع معظمها خلال فترة الإمبراطورية البريطانية، عبر مسارات متعددة شملت التجارة والبعثات الأنثروبولوجية والمصادرة المباشرة والنهب خلال الحملات العسكرية.

وعلى مدى سنوات طويلة، بقيت الغالبية العظمى من هذه القطع بعيدة عن أنظار الزوار، محفوظة في المخازن دون عرض أو تفسير موسع، وكأنها صفحات مطوية من تاريخ غير مكتوب، وفق وكالة رويترز.

معرض يكشف الفراغ المعرفي

المعرض الجديد الذي يحمل اسم “إفريقيا هاب” لا يقدم نفسه بوصفه عرضاً تقليدياً يحتفي بالإنجازات الفنية فقط، بل مساحة مكاشفة متعمدة مع فجوات المعرفة داخل المؤسسة نفسها، فعلى خلاف المعارض الأخرى التي تستند إلى سنوات من البحث الأكاديمي والتوثيق، يعترف هذا المعرض صراحة بأن كثيراً من القطع المعروضة تفتقر إلى معلومات أساسية تتعلق بهويتها الأصلية.

وتوضح البيانات المرافقة للمعرض أن سجلات المتحف نادراً ما تخبرنا من صنع هذه القطع الأثرية أو متى صنعت أو ما كان اسمها الأصلي، كما تغيب المعلومات المتعلقة بمن كان يملكها، وكيف كانت تستخدم، ولماذا كانت ذات أهمية خاصة للمجتمعات التي جاءت منها، وهذا الاعتراف العلني يشكل جزءاً من رسالة المعرض، التي تسعى إلى تفكيك فكرة المعرفة الأحادية التي طالما هيمنت على المتاحف الغربية.

تقول سيلفيا مجبياهوريكي، وهي من جماعة إيجبو وتقيم في منطقة مانشستر الكبرى وشاركت في إنشاء المعرض، إن القصص الكامنة خلف هذه القطع متباينة ومعقدة، وتوضح أن بعض القطع أُهدي بالفعل، في حين سُرق بعضها الآخر، وأخذت قطع كثيرة بالقوة خلال الغزو العسكري، وتؤكد أن جمع هذه القطع في فضاء واحد يمثل خطوة أولى نحو فهم أعمق لتاريخها، وربما نحو إعادة وصل ما انقطع بينها وبين مجتمعاتها الأصلية.

وتضيف أن المعرض لا يسعى إلى تبرير ما حدث في الماضي، بل إلى فتح نقاش صريح حوله، وإتاحة الفرصة أمام المجتمعات الإفريقية للمشاركة في سرد قصصها بأنفسها، بدلاً من أن تظل موضوعاً لقراءات خارجية.

إعادة أم مشاركة

أحد المحاور المركزية التي يطرحها معرض إفريقيا هاب يتمثل في السؤال حول مصير هذه القطع الأثرية، هل ينبغي إعادتها بالكامل إلى المجتمعات التي جاءت منها، أم يمكن إيجاد صيغ جديدة للمشاركة والاحتفاء بها في أماكن مثل مانشستر حيث تعيش جاليات إفريقية كبيرة؟

ولأجل ذلك دعا المتحف الجمهور إلى التواصل معه في حال تعرفوا على أي من القطع المعروضة، سواء من حيث أصلها الجغرافي أو وظيفتها الثقافية أو تسميتها الأصلية. هذه الدعوة تمثل محاولة لتحويل الزوار من متلقين سلبيين إلى شركاء فاعلين في استعادة المعرفة المفقودة.

يأتي هذا المعرض في سياق عالمي يشهد تصاعداً ملاحظاً في الدعوات المطالبة بإعادة القطع الأثرية المنهوبة ورفات الأجداد من المؤسسات الغربية إلى بلدانها الأصلية، وتندرج هذه المطالب ضمن حركة أوسع تسعى إلى معالجة إرث الاستعمار والعبودية، والمطالبة بتعويضات رمزية ومادية عن قرون من الاستغلال.

وعلى الرغم من أن بعض الدول الأوروبية شرعت بالفعل في إعادة عدد محدود من القطع الأثرية إلى بلدان إفريقية، فإن الغالبية العظمى من هذه الكنوز لا تزال محفوظة في المتاحف والمخازن، بعيدة عن السياقات الثقافية التي منحتها معناها الأصلي.

محاولات استرداد محدودة

شهدت السنوات الأخيرة بعض المبادرات لإعادة قطع أثرية بارزة، مثل تماثيل وأعمال فنية أعيدت إلى نيجيريا وبنين، غير أن هذه الجهود ما زالت توصف بالمحدودة قياساً بحجم ما تم نهبه خلال القرنين 19 و20، كما أن مسألة رفات الأجداد تظل أكثر حساسية، نظراً لما تحمله من أبعاد إنسانية وروحية عميقة.

في هذا الإطار، دعا مدافعون عن حقوق الإنسان في مارس إلى إصلاح ما وصفوه بفراغ تشريعي في بريطانيا، يسمح للمتاحف والمؤسسات بالاحتفاظ برفات بشرية وعرضها، دون وجود إطار قانوني واضح يلزم بإعادتها إلى مجتمعاتها الأصلية.

يعكس معرض إفريقيا هاب تحولاً تدريجياً في الخطاب المتحفي الغربي، من التركيز على الجمع والعرض إلى التساؤل والمساءلة. فبدلاً من تقديم المتحف بوصفه حارساً محايداً للتراث العالمي، يقر هذا المعرض بأن المتاحف كانت جزءاً من منظومة استعمارية أوسع، أسهمت في نقل الممتلكات الثقافية من سياقاتها الأصلية إلى مراكز القوة.

ويرى مراقبون أن مثل هذه المعارض قد تشكل خطوة مهمة نحو بناء علاقة أكثر توازناً بين المتاحف الغربية والمجتمعات التي جاءت منها مقتنياتها، شرط أن تتبعها سياسات عملية تتجاوز حدود الاعتراف الرمزي.

أصوات تنتظر العدالة

بالنسبة لكثير من أبناء الجاليات الإفريقية في بريطانيا، لا يمثل هذا المعرض مجرد حدث ثقافي، بل فرصة لسماع أصوات ظلت مهمشة طويلاً. فالقطع المعروضة ليست مجرد أدوات أو تماثيل، بل شواهد على تاريخ وهوية وذاكرة جماعية، انتزعت من سياقها الأصلي خلال حقبة من العنف والسيطرة.

ويرى مشاركون في المعرض أن إعادة فتح هذا الملف بشكل علني قد تسهم في إعادة بناء الثقة، ليس فقط بين المتاحف والجاليات الإفريقية، بل أيضاً بين الماضي والحاضر، عبر اعتراف صريح بما جرى، وبحث جاد عن سبل الإنصاف.

وتعود جذور الجدل حول الآثار الإفريقية في المتاحف الأوروبية إلى الحقبة الاستعمارية، حين قامت قوى أوروبية، منها بريطانيا، بجمع كميات هائلة من الممتلكات الثقافية من مستعمراتها السابقة، وقد جرى ذلك عبر بعثات علمية وعسكرية وتجارية، غالباً دون موافقة المجتمعات المحلية.

ومع صعود حركات التحرر الوطني في منتصف القرن 20، بدأت المطالب باستعادة هذا التراث تظهر بشكل متقطع، قبل أن تتخذ زخماً عالمياً في العقود الأخيرة. واليوم، تجد المتاحف الغربية نفسها أمام اختبار أخلاقي وقانوني يتمثل في كيفية التعامل مع مقتنيات تشكل جزءاً من تاريخ مؤلم، لا يزال صداه حاضراً في الوعي الجمعي لشعوب كثيرة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية